الأربعاء، 19 فبراير 2014

ظاهرة الإلحاد: حقيقتها وحدودها (1). سلسلة آفاق جديدة في العلوم الإسلامية.


سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية.

ظاهرة الإلحاد: حقيقتها وحدودها (1).  

إلياس بلكا

يُعرف عصرنا هذا بالفردانية، حيث الأولوية للفرد على الجماعة. لذلك يتحدثون مثلا عن حقوق الإنسان/الفرد، ونادرا ما يتحدث أحد عن حقوق الشعب/الجماعة.. هذا جوهر الخلاف في بعض القضايا كالإجهاض مثلا: من منظور الفردانية يحقّ للمرأة أن تجهض لأنها تتصرف في جسدها، ولا سلطان لأحد على هذا الجسد غيرُها.. أما من منظور الحقوق الجماعية فلا يجوز لأننا سفينة واحدة ومركب واحد. ومسألة التحكم في النسل مصيرية للبشرية فلا يمكن تركها لأهواء الأفراد.

هذا ربما هو السبب الرئيس وراء فورة الاعتقادات والأديان التي يعرفها العالم: جميع المعتقدات تجد لها اليوم أنصارا ومؤمنين.. كالأديان السماوية، والوضعية كالبوذية والهندوسية.. حتى بعض التقاليع الآسيوية كهاري الكريشنا (اقرأ عنها بالأنترنت) لها مكانها في العالم.

يمكن أن نضع في هذا السياق تيارا فكريا آخر، هو: الإلحاد واللادينية واللأدرية. وهذه في الحقيقة مصطلحات متفاوتة بعض الشيء في دلالاتها. فالإلحاد هو إنكار وجود الله أصلا، والجزم بأنه لا يوجد. واللادينية أقرب إلى إهمال موضوع الدين والتدين جملة وتفصيلا، فهو إهمال سلوكي أكثر مما هو موقف فكري. واللأدرية توقف تام، فصاحبها لا يثبت وجود الخالق، لكنه أيضا لا ينفيه..

دعونا الآن نركز الحديث على الإلحاد. فهذه ظاهرة قديمة جدا، بل موغلة في القدم.. لكنها كانت دائما ظاهرة هامشية في التاريخ البشري، بمعنى أن معظم البشرية كان دائما يؤمن بالله خالقا للكون، وإنما كان الانحراف في التوحيد، لأن هذه البشرية كانت غالبا ما تـُثبت مع الله آلهة أخرى.. لذلك تلاحظ أن القرآن الكريم لم يعتن كثيرا بردّ شبه الإلحاد، لكنه بالغ في بيان تهافت الشرك وفي توضيح أدلة التوحيد.

حتى أوربا في عصر الأنوار احتفظت بإيمانها، فأكثر فلاسفة الأنوار الذين هاجموا الكنيسة والدوغما المسيحية أعلنوا أنهم يؤمنون بالله الواحد (فولتير مثلا).. ثم شيئا فشيئا بدأ جزء من الفكر الأوربي يراجع هذا الإيمان نفسه، خاصة مع نيتشه فيلسوف العدمية.. حتى صارت أوربا بعد الحرب العالمية الثانية أول قارة ملحدة في التاريخ، بتعبير الرئيس التشيكي السابق فاكلاف هافل.. ليس بمعنى أن الأوربيين ملحدون، فالأكثرية إلى الآن تعلن إيمانها بالله في استطلاعات الرأي.. لكن بمعنى أن الدين كاد يتلاشى تماما من هذه القارة.. من الدولة والمدرسة والحياة العامة.. بل حتى أماكن التعبد والكنائس صارت خاوية لا يرتادها أحد..

نحن في العالم العربي والإسلامي لسنا بعيدين عن هذا التأثير، ويوجد اليوم اتفاق على أن الإلحاد منتشر وموجود بين  الشباب بنسبة ما.. لكن الذي لا نعرفه هو: إلى أيّ مدى. فوجود الظاهرة أمر مؤكد، لكن حجمها غير معروف.

قرأت مؤخرا في موقع بي بي سي مقالا عن الإلحاد بمصر، من غريب ما جاء فيه أن بعض الفتيات لاأدريات ومع ذلك يحتفظن بحجابهنّ خوفا من ردّ فعل المجتمع..

والواقع أن المجتمعات العربية والإسلامية، أو الشرقية، مجتمعات متدينة بطبيعتها.. لكن هل هذا معناه أن الإلحاد سيبقى دائما على هامش حياة هذه المجتمعات؟  ألا يوجد احتمال أن يتطور أكثر ويبرز؟

لست على يقين من الجواب لا إيجابا ولا سلبا. لكن من الأهمية بمكان دراسة ظاهرة الإلحاد في مجتمعاتنا.. وهي دراسة متنوعة، إذ منها ما يجب أن يدرس الظاهرة عالميا، خاصة بأوربا المختلفة كثيرا عن أمريكا المتديّـنة.. ومنها ما يجب أن يدرسها في نطاق العالم الإسلامي، أو بعض مناطقه أو دوله..

لا ينبغي أن تقتصر هذه الدراسة على كيفية ردّ الإلحاد، بمعنى أن نؤلف كتبا في إثبات وجود الله.. بل يجب أيضا دراسة الموضوع من النواحي الاجتماعية والنفسية والحداثية..

من جهة من المهم تطوير علم الكلام، والذي هو علم الدفاع عن العقائد الدينية بالأدلة العقلية.. فنحن لا نزال إلى الآن نقتصر على الأدلة القديمة على وجود الله سبحانه والتي فصّلها علماؤنا قديما، كدليل التسلسل ودليل التمانع.. ودليل العناية بتعبير ابن رشد.. لكن هذا غير كاف. ولعليّ أشرح الفكرة أفضل في مقال قادم عن كيف يمكن الاستفادة من الاكتشافات الفلكية الأخيرة في الموضوع..

يتبع..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق