الجمعة، 21 فبراير 2014

ظاهرة الإلحاد في عالم ما بعد الحداثة. (2). سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية.


سلسلة آفاق جديدة في البحوث الإسلامية.

ظاهرة الإلحاد في عالم ما بعد الحداثة. (2)  

إلياس بلكا

رأينا في الحلقة الماضية كيف أننا فشلنا –نسبيا- في إخراج علم الكلام والدفاع عن العقائد الدينية بثوب جديد يناسب العصر وطبيعته ومشكلاته.

إذن لماذا تأخرنا في إنجاز هذا العمل؟ وجهتُ هذا السؤال للشيخ علي جمعة – مفتي مصر السابق- في حوار دار بيننا السنة الماضية، وكان رأيه أنه كان للشيخ عبد الحليم محمود رحمه الله اجتهاد في المسألة أعطى نتائج سلبية. تفسيره أن عبد الحليم، وهو الإمام الأكبر وشيخ الزهر في الستينيات، كان لا يرى وضع مواد علم الكلام في الكليات الأزهرية، فنشأ جيل من الباحثين والدارسين لا يعرف هذا العلم، لذلك لم يطوّر من أدوات تثبيت العقائد الإسلامية.

كان الشيخ عبد الحليم محمود صوفيا، وعلى الطريقة الشاذلية. وهذه الطريقة من أيام مؤسسها في القرن السابع الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله لم تكن تستسغ أن نتكلم في أدلة وجود الله.. وكيف يطلب الإنسان التافه الصغير أدلة على وجود الله الخالق العظيم؟! ألهذه الدرجة انقلبت الآية ؟ وقد صاغ ذلك ابن عطاء الله الإسكندري في مناجاته مثلا، فكتب: إِلهِي، كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ؟ أَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ؟! مَتى غِبْتَ حَتَّى تَحْتاجَ إِلى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ!  وَمَتى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟! عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقِيباً.. الخ..

لكن هذا التفسير قد يعلل تأخر علم الكلام في بلد كمصر مثلا، لكنه لا يعلل هذا التأخر في بلدان مسلمة أخرى كالمغرب والشام والقارة الهندية.. على سبيل المثال.

صحيح أنه توجد استثناءات، ربما من أهمها أعمال الشيخ سعيد النورسي الذي اشتهرت عنه قولته بأن واجب الوقت هو حفظ الإيمان أولا.. وقد عاش الشيخ في ظل تركيا الكمالية حيث واجه الدين تحديات ضخمة استهدفت وجوده.

نترك هذه القضية جانبا، إذ نحتاج لدراسة متخصصة توضح لنا لماذا لم يقع تطوير علم الكلام والعقائد في القرن العشرين بالدرجة المطلوبة. ولعلك لو قارنتَ مثلا هذا بما حققته علوم شرعية أخرى، كالفقه والحديث، من نمو وتطور.. لاتَّضح لك الفرق جليّا. 

لكن لموضوع الإلحاد جوانب أخرى لابد من دراستها: لماذا اتسع الإلحاد في عالم اليوم؟ ما علاقته بما يسمى بـ"الحداثة" وبعصر الأنوار في القرن الثامن عشر.. أيضا ما صلته بمرحلة "ما بعد الحداثة"، والتي يمكن اختصارها بوصفها مرحلة افتقاد المعنى.. فهنا جميع الأمور متساوية، ولا يوجد شيء أفضل من شيء، لأنه لا توجد مرجعية عليا للبشرية: لا دينية ولا أخلاقية.. ولا يوجد المُقدس، بل كل شيء تَدنّس. وهذا هو المغزى العميق للرسوم الكاريكاتورية للرسول الأكرم عليه السلام. أراد هذا العالم ألا يُـبقيَ شيئا مقدسا في الدنيا.. فلزم تدنيس كل شيء.. والمسلمون هم آخر الأمم الكبيرة التي تحتفظ بفكرة المقدس.. لذا تركز الهجوم على عقائدهم.

لكن عالم ما بعد الحداثة في جوهره ليس ملحدا.. وكذلك ليس مؤمنا... بالنسبة له الإيمان والإلحاد فكرتان متساويتان.. ولا يمكن أن نصحح إحداهما على حساب الأخرى.. لأنه لا يوجد مقياس نهائي لهذا التصحيح.. لذلك حين تساوت الأفكار في عالم ما بعد الحداثة وتعادلتْ.. وأصبحت كلها نسبية.. سقطت كلها من الاعتبار.. لذا نفهم لماذا لم يعد عالَمنا يفكر ويتأمل.. لقد توقف التفكير حين تساوى كل شيء مع كل شيء، ولم تعد للأشياء أي قيمة ذاتية.. لا يوجد شيء له قيمة في حد ذاته.. الإنسان المحدد في الزمان والمكان هو الذي يضفي على الأشياء قيمة معينة، فأصبح هو المرجع بنفسه.. لكن لنفسه. إذ لا توجد مرجعيات مطلقة تعلو على حدود الإنسان والزمان والمكان..

لهذا نفهم كيف أن بشرية ما بعد الحداثة حين تركتْ عالم الأفكار جانبا فإنها ركّزت كل اهتمامها على عالم الأشياء.. الأشياء المادية.. فإذا كان البشر يختلفون حول الفكرة فإنهم يتفقون على المتعة.. هذا الشيء الوحيد المعترف به في عصرنا هذا.. حقـّا أصاب فوكوياما في وصفه للإنسان المعاصر بـ"الكلب السعيد"، أي في كتابه حول نهاية التاريخ.. وإن أخطأ في تصوره أن عالم الأفكار مات تماما.. هو كلب لأنه يهتم فقط بمتعه المادية من أكل وشرب وجنس وبيع وشراء.. وهو سعيد لأنه يظن نفسه كذلك.. سعيد بما يملكه.

لذلك فإن البشرية –في أكثريتها- إذ تركت الإيمان بالله واليوم الآخر جانبا، إما من باب الإلحاد أو من باب اللاأدرية أو من باب الإهمال فقط.. فإنها عوّضته بالإيمان بإله آخر: المال.. أكثر الناس اليوم يعبدون المال.. يسعون وراءه في النهار ويحلمون به نوما في الليل.. كل الحديث الآن عن المال وما يتعلق به.. هذا هو المعبود الأكبر اليوم..

ذلك لأن المال وسيلة أيضا لمتع أخرى يحرص عليها الإنسان المعاصر.. فهو يأكل ويشرب أكثر من أي وقت مضى حتى صارت البدانة مشكلة عالمية.. وهو يشتري لدرجة مَرَضية لذلك أصبح الاستهلاك هو الموضة الأولى، كما بيّن ذلك جيدا الفيلسوف الألماني ماركوز في كتابه الذي لايزال مفيدا حتى الساعة: الإنسان ذو  البُعد الواحد.. وهذا الإنسان أيضا أصبح مهووسا بالجنس أكثر من أي وقت مضى.. لقد أصبح الجنس في عالمنا هوسا جماعيا خطيرا جدا..

هذه بعض أبعاد مشكلة الإلحاد اليوم. ونحتاج لدراسات عديدة ومتنوعة لضبطها. لكن على من يتصدّى لها أن يقرأ بعض التراث العالمي في الموضوع، بمعنى أن عليه أن يقرأ أيضا باللغات الأجنبية حتى يأتي بالجديد المفيد.. ولا يكتفي بالعربية. جربت كتابة كلمة "إلحاد" بالإنجليزية في موقع بحث خاص بمكتبة إحدى الجامعات الأنجلوساكسونية، فطلعت لي: 82959  نتيجة، ليست كلها صالحة بطبيعة الحال، لكن هذا الرقم يعطيك فكرة عن ضخامة الموضوع.. فأين همّة الشباب..

 

 

 

هناك تعليق واحد: